فصل: موعظة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.موعظة:

عِبَادَ اللهِ: أين الَّذِينَ سادوا وشادوا أوطاننا، وحكموا وأحكموا بنيانَا، وجمعوا فحشدوا أموالاً وأعوانَاً عوضوا بأرباح الهَوَى خسرانَاً، وبدلوا بإعزاز الكبر والتجبر هوانَاً وأخرجوا من ديارهم بعد الجموع وحدانَاً، وما استصحبوا مِمَّا جمعوا إلا أكفاناً.
نصِيْبُكَ مِمَّا تَجْمَعَ الدَّهْرَ كُلَّهُ ** رِدَاً أنِ تُطْوَى فِيه مَا وَحَنُوْطُ

آخر:
فَمَا تَزَوَدَ مِمَّا كَانَ يَجْمَعُهُ ** سِوَى حَنُوطِ غَدَاةِ البَيْنِ فِي خَرَقِ

وغَيْرَ نِفْحَةِ أَعْوَادٍ تُشَبُ لَهُ ** وَقَلّ ذَلِكَ مِنْ زَادٍ لِمُنْطَلِق

يحملون عَلَى الأعناق ولا يسمون ركبانَاً، وينزلون بطون الألحاد ولا يسمون ضيفانَاً، متقاربين فِي القبور ولا يسمون جيراناً.
أولَيْسَ قَدْ رأينا كيف ينقلون ولا كفانَا، فيا من قَدْ بقي من عمره القليل ولا يدري متي يقع الرحيل، كأنك بطرفك حين الموت يسيل والروح تنزع والكرب ثقيل، والنقلة قَدْ قربت وأين المقيل، أفِي الْجَنَّة ونعيمها والسلسبيل أم فِي الجحيم وأنكالها وأغلالها وبئس المقيل.
يا من تعد أنفاسه استدركها، يا من ستفوته أيامه أدركها، إن أعز الخلق عَلَيْكَ نفسك فلا تهلكها كم أغلقت باباً عَلَى قبيح، وكم أعرضت عن قول المخلص النصيح، أعظم الله أجرك فِي عمر قَدْ مضي ما رزقت فِيه العفو ولا الرضي.
انقضت فِيه اللذات كمن قضي، وصَارَت الحسرات من الشهوات عوضاً، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وَقَالَ تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} وَاللهُ أَعْلم وصلى الله عَلَى مُحَمَّد.
موعظة:
عِبَادَ اللهِ: ما هذه الغَفْلَة وأنتم مستبصرون وما هذه الرقدة وأنتم مستيقظون كيف نسيتم الزَادَ وأنتم راحلون، أين من كَانَ قبلكم إلا تتفكرون أما رأيتك كيف نازلهم المنون: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}.
عِبَادَ اللهِ: لَوْ حضرت القُلُوب لجرت من العيون عيون فكأنكمْ بالآلام قَدْ اعترضت، وبالأجسام قَدْ انقضت، وبالأوصال قَدْ فصلت، فرحم الله عبداً أعتق نَفْسهُ من رق شهواتها ونظر لها قبل مماتها وأخذ من جدته عتاداً لفقره وادخر من صحته زَاداً لقبره قبل أن يفوت زمن الاستدراك بوقوع الهلاك.
فكأنكم بالموت قَدْ حل العراص، وأنشب مخالبيه فِي الأرواح للاقتناص، وأين لكم الفلات فلات حين مناص ثُمَّ يقومون للحساب والجزاء والقصاص.
وإِذَا الخلائق قَدْ حشرت، وإِذَا الصحف نشرت، وإِذَا جهنم قَدْ سيقت ومرارة الندم قَدْ ذيقت، فستنطق عليكم الجوارح وتنشر حين الِقَضَاءِ الفضائح.
فيا خجل المقصرين ويا أسف المذنبين ويا حَسْرَة المفرطين ويا سوء منقلب الظالمين، قال الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء}.
وَقَالَ تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
خَفِ اللهُ فِي ظُلْمِ الوَرَى واحْذَرَنَّهُ ** وَخَفْ يَوْمَ عَضَ الظَالِمِونَ عَلَى اليَد

وَاللهُ أَعْلم وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وسلم.
فصل: قال بعض السَّلَف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشَيْء وقر فِي صدره.
وَقَالَ بَعْضهمْ: الَّذِي كَانَ فِي صدر أبي بكر رضي الله عنه المحبة لله والنصيحة لعباده وَقَالَ طائفة من العارفين: ما بلغ من بلغ بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بسخاوة الأنفس وسلامة الصدر والنَّصِيحَة للأمة، زَادَ بَعْضهمْ: وبذم نفوسهم.
وَقَالَ آخر: إنما تفاوتوا بالإرادات ولم يتفاوتوا بكثرة الصيام والصلوات.
وذكر لأبي سليمان: طول أعمار بني إسرائيل وشدة اجتهادهم فِي الأعمال، وأن من النَّاس من غبطهم بذَلِكَ، فَقَالَ: إنما يريد الله منكم صدق النِّيْة فيما عنده. أو كما قال.
وَقَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ لأصحابه: أنتم أكثر صوماً وصلاةً من أصحاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، وهم كَانُوا خيراً منكم، قَالُوا: وبما ذاك؟ قال: كَانُوا أزهد منكم فِي الدُّنْيَا وأرغب فِي الآخرة.
يشير إلى الصحابة رَضِيَ اللهُ عنهُمْ فاقوا عَلَى من بعدهم بشدة تعلق قُلُوبهمْ بالآخرة ورغبتهم فيها وإعراضهم عن الدُّنْيَا وتحقيرها وتصغيرها.
وهذه الحال ورثوها من نبيهم صلى الله عليه وسلم، فإنه كَانَ أشد الخلق فراغاً بقَلْبهُ من الدُّنْيَا وتعلقه بِاللهِ والدار الآخرة مَعَ ملابسته للخلق بظاهره، وقيامه بأعباء النبوة وسياسة الدين والدنيا.
وكَذَلِكَ خلفاؤه الراشدون بعده، وكَذَلِكَ أعيان التابعين لهُمْ بإحسان كالحسن وعمر بن عَبْد الْعَزِيز وقَدْ كَانَ فِي زمأنَّهُمْ من هُوَ أكثر مِنْهُمْ صوماً، اللَّهُمَّ ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب الْعَمَل الَّذِي يقربنا إلى حبك، اللَّهُمَّ ثَبِّتْ إيماننا ثبوت الجبال الراسيات ووفقنا للعمل بالباقيات الصالحات واعصمنا يا مولانَا عن المحرمَاتَ والمشتبهات واغفر لنا جَمِيع الخطايا والزلات وافتح لدعائنا باب القبول والإجابات يا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.

.فصل في شرح حديث: «فسددوا وقاربوا»:

وَقَالَ ابن رجب رَحِمَهُ اللهُ عَلَى قوله صلى الله عليه وسلم فِي حديث أَبِي هُرَيْرَةِ وعَائِشَة رضي الله عنهما: «فسددوا وقاربوا»، المراد بالتسديد الْعَمَل بالسداد، وَهُوَ القصد والتوسط فِي العبادة فلا يقصر فيما أمر به، ولا يتحمل منها ما لا يطيقه.
قال النضرُ بنُ شُمَيْلٍ: السداد القصد فِي الدين والسبيل، وكذا المقاربة، المراد التوسط بين التفريط والإفراط فهما كلمتان بمعني واحد أو متقارب، وَهُوَ المراد بقوله فِي الرواية الأخري: «عليكم هدياً قاصداً».
قوله: وأبشروا يعني أن من مشي فِي طاعة الله عَلَى التسديد والمقاربة فليبشر، فإنه يصل ويسبق الدائب المجتهد فِي الأعمال فإن طريقة الاقتصاد والمقاربة أفضل من غيرها.
فمن سلكها فليبشر بالوصول فإن الاقتصاد فِي سنة خَيْر من الاجتهاد فِي غيرها. وخَيْر الهُدَى هدي مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم، فمن سلك طريقه كَانَ أقرب إلى الله من غيره.
ولَيْسَتْ الفضائل بكثرة الأعمال البدنية، لكن بكونها خالصة لله صواباً عَلَى متابعة السنة وبكثرة معارف القُلُوب وأعمالها.
فمن كَانَ بِاللهِ أعلم وبدينه وأحكامه وشرائعه أعلم، وله أخوف وأحب وأرجي فهو أفضل ممن لَيْسَ كَذَلِكَ، وإن كَانَ أكثر منه عملاً بالجوارح.
وإلي هَذَا المعني الإشارة فِي حديث عَائِشَة رَضِيَ اللهُ عنهَا بقول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «سددوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أَحَداً منكم عمله الْجَنَّة، وإن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل».
فأمر بالاقتصاد فِي الْعَمَل وأن يضم إلى ذَلِكَ الْعَمَل بأحب الأعمال إلى الله، وبأن الْعَمَل وحده لا يدخل الجنة.
وصلاةً، ولكن لم يصل إلى ما وصلت إليه قُلُوب هؤلاء من ارتحاله عن الدُّنْيَا وتوطنها فِي الآخرة.
فأفضل النَّاس من سلك طَرِيق النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وخواص أصحابه فِي الاقتصاد فِي العبادة البدنية والاجتهاد فِي الأحوال القبلية فإن سفر الآخرة يقطع بسير القُلُوب لا بسير الأبدان.
جَاءَ رجل إلى بعض العارفين فَقَالَ لَهُ: قطعت إليك مسافة، فَقَالَ لَهُ: لَيْسَ هَذَا الأمر بقطع المسافات، فارق نفسك بخطوة وقَدْ حصل لك مقصودك. قال أبو يزيد: رَأَيْت رب العزة فِي المنام فقُلْتُ لَهُ: يا رب كيف الطَرِيق إليك؟ قال: اترك نفسك وتعال.
ما أعطيت أمة ما أعطيت هذه الأمة ببركة متابعة نبيها صلى الله عليه وسلم، حيث كَانَ أفضل الخلق، وهديه أكمل الهُدَى مَعَ ما يسر الله عَلَى يديه من دينه، ووضع به الآصار والأغلال عن أمته، فمن أطاعه فقَدْ أطاع الله وأحبه الله، واهتدي بهدي الله.
فمن جملة ما حصل لأمته ببركته وتيسير شريعته أن من صلي مِنْهُمْ العشاء فِي جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلي الفجر فِي جماعة فكأنما قام الليل كله، فيكتب لَهُ قيام ليلة وَهُوَ نائم عَلَى فراشه، ولاسيما إن نام عَلَى طهر وذكر حتي تغلبه عيناه.
ومن صام مِنْهُمْ ثلاثة أيام من كُلّ شهر فقَدْ صام الشهر كله وَهُوَ صائم لبقية الشهر فِي ضيافة الله، ومفطر لَهُ فِي رخصه والطاعم الشاكر لَهُ أجر الصائم الصابر. ومن نوي أن يقوم من الليل فغلبته عَيْنَاهُ فنام كتب لَهُ ما نوي، وكَانَ نومه عَلَيْهِ صدقة.
وَقَالَ أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم كيف يسبقون سهر الحمقي وصيامهم. ولهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيث الصحيح: «رب قائم حظه من قيامه السهر، وصائم حظه من صيامه الجوع والعطش». رواه الطبراني وأَحمَدُ بنُ حنبل.
وَقَالَ بَعْضهمْ: كم من مستغفر ممقوت وساكت مرحوم، وهَذَا استغفر وقَلْبهُ فاجر، وهَذَا ساكت وقَلْبهُ ذاكر، وَقَالَ بَعْضهمْ: لَيْسَ الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام عَلَى فراشه ثُمَّ يصبح وقَدْ سبق الركب.
اللَّهُمَّ وفقنا لما وفقت إليه القوم وأيقظنا من سنة الغَفْلَة والنوم وارزقنا الاستعداد لذَلِكَ الْيَوْم الَّذِي يربح فِيه المتقون، اللَّهُمَّ وعاملنا بإحسانك وَجَدَ عَلَيْنَا بِفَضْلِكَ وامتنانك وَاجْعَلْنَا مِنْ عبادك الَّذِينَ لا خوف عَلَيْهمْ ولا هم يحزنون اللَّهُمَّ ارحم ذلنا بين يديك واجعل رغبتنا فيما لديك، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه أجمعين.
فصل:
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: قوله صلى الله عليه وسلم: «اغدوا وروحوا وشَيْء من الدلجة». كقوله فِي الرواية الأخري: «استعينوا بالغدوة والروحة وشَيْء من الدلجة». يعني أن هذه الأوقات الثلاثة تَكُون أوقات السير إلى الله بالطاعات، وهي آخر الليل وأول النَّهَارَ وآخره.
وقَدْ ذكر الله هذه الأوقات فِي قوله تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}. وَقَالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}، وَقَالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}.
وذكر الله تعالى الذكر فِي طرفِي النَّهَارِ فِي مواضع كثيرة من كتابه كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} وَقَالَ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ}. وقال: {وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} وَقَالَ: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً}.
فهذه الأوقات الثلاثة منها وقتان وهما أول النَّهَار وآخره يجتمَعَ فِي كُل من هذين الوقتين عمل واجب هُوَ تطوع فأما الْعَمَل الواجب فهو صلاة الصبح وصلاة العصر وهما من أفضل الصلوات الخمس، وهما البردان اللذان من حافظ عَلَيْهِمَا دخل الْجَنَّة، وقَدْ قيل فِي كُلّ مِنْهُمَا أنها الصَّلاة الوسطي.
وأما الْعَمَل التطوع فهو ذكر الله بعد صلاة الصبح حتي تطلع الشمس، وبعد العصر حتي تغرب الشمس. وقَدْ وردت النصوص الكثيرة فِي أذكار الصباح والمساء وفِي فضل من ذكر الله حيث يصبح وحيث يمسي.
وقَدْ روي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً: «ابن آدم اذكرني ساعة من أول النَّهَارَ وساعة من آخره أغفر لك ما بين ذَلِكَ إلا الكبائر أو تتوب منها». وكَانَ السَّلَف لآخر النَّهَارَ أشد تعظيماً من أوله.
قال ابن المبارك: بلغنا أنه من ختم نهاره بذكر الله كتب نهاره كله ذكراً. وَقَالَ أبو الجلد: بلغنا أن الله تعالى ينزل مساء كُلّ يوم إلى السماء الدُّنْيَا ينظر إلى أعمال بني آدم.
عَلَيْكَ يَاذَا الجَلاَلِ مُعْتَمَدِي ** طُوبَى لِمَنْ كُنْتَ أَنْتَ مَوْلاَهْ

طُوبَى لِمَنْ بَاتَ خَائِفاً وَجِلاً ** يَشْكُوا إِلى ذِي الجَلاَلِ بَلْوَاهْ

وَمَا بِهِ عِلَّةٌ وَلاَ سَقَمٌ ** أَكْثَرَ مِنْ حُبّهِ لِمَوْلاَهْ

ورأي بعض السَّلَف أبا جعفر القاري فِي المنام فَقَالَ لَهُ: قل لأبي حازم – يعني الأعرج الزاهد الكيس: إن الله وملائكته يتراءون مجلسك بالعشيات. والظاهر أن أبا حازم كَانَ يقص عَلَى النَّاس آخر النهار.
وقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث أن الذكر بعد الصبح أفضل من أربع رقاب وبعد العصر أحب من ثمان. وأيضاً فيوم الْجُمُعَة آخره أفضل من أوله لما يرجي فِي آخره من ساعة الإجابة.
ويوم عرفة آخره أفضل من أوله لأنه وَقْت الوقوف. وكَذَلِكَ آخر الليل أفضل من أوله، وَكَذَا قال السَّلَف، واستدلوا بحديث النزول الإلهي. وهَذَا كله مِمَّا يرجح به قول من قال أن صلاة العصر هِيَ الوسطي.
وأما الوَقْت الثالث فهو الدلجة. والإدلاج سير آخر الليل، والمراد هنا الْعَمَل فِي آخر الليل وَهُوَ وَقْت الاستغفار كما قال تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} وَقَالَ: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}.
وهو آخر أوقات النزول الإلهي المتضمن لاستعراض حوائج السائلين، واستغفار المذنبين، وتوبة التائبين، وسط الليل للمحبين للخلوة بحبيبهم، وآخر الليل للمذنبين يستغفرون من ذنوبهم، من عجز عن مُشَارَكَة المحبين فِي الجري معهم فِي ذَلِكَ المضمار فلا أقل من مُشَارَكَة المذنبين فِي الاعتذار.
ورد فِي بعض الآثار: أن العرش يهتز من السحر. قال طاووس ما كنت أظن أن أَحَدًا ينام فِي السحر.
وفِي الْحَدِيث الَّذِي خرجه الترمذي: «من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. سير الدلجة آخر الليل يقطع به سفر الدُّنْيَا والآخرة».
ولهَذَا الْحَدِيث الَّذِي أخرجه مسلم: «إِذَا سافرتم فعليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل» وقَدْ دخل الأشتر عَلَى عَلَي رَضِيَ اللهُ عنهُ وَهُوَ يصلي فأنشد:
اصْبِرْ عَلَى مَضَضِ الإدْلاَجِ بِالسَّحَرِ ** وفِي الرَّواحِ عَلَى الطَاعَاتِ وَالبُكَرِ

لاَ تَضْجَرَنّ وَلاَ يُعْجِزْكَ مَطْلَبُهَا ** فَالهَمُ يَتْلَفُ بَيْنَ اليَأْسِ وَالضَّجَرِ

إِنّي رَأَيْتُ وفِي الأيَّامِ تَجْرُبَةٌ ** لِلصَّبْرِ عَاقِبَةٌ مَحْمُودَةُ الأثَرِ

وَقَلَّ مَنْ جَدَّ فِي أَمْرٍ تَطَلّبَهُ ** واسْتَصْحِبَ الصَّبْرَ إلا فَازَ بِالظَفَر

اللَّهُمَّ ألحقنا بعبادك الصالحين الأبْرَار، وآتنا فِي الدُّنْيَا حسنة وفِي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا، وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وصلى الله عَلَى سيدنا مُحَمَّد وعَلَى آله وصحبه أجمعين.
فصل:
وَقَالَ رَحِمَهُ اللهُ: وقوله صلى الله عليه وسلم: «والقصد القصد تبلغوا». حث عَلَى الاقتصاد فِي العبادة، والتوسط فيها بين الغلَوْ والتقصير، ولذَلِكَ كرره مرة بعد مرة. وفِي مسند البزار من حديث حذيفة رَضِيَ اللهُ عنهُ: ما أحسن القصد فِي الفقر، وما أحسن القصد فِي الغني، وما أحسن القصد فِي العبادة.
وكَانَ مطرِّفُ بن عَبْد اللهِ بن الشخِّيْر قَدْ اجتهد فِي العبادة فَقَالَ له أبوه: خَيْر الأمور أوسطها، الحسنة بين السيئتين، وشر السير القحقحة أن يلح فِي شدة السير حتي تَقُوم عَلَيْهِ راحلته وتعطب فيبقي منقطع به سفره، انتهي.
ويشهد لهَذَا الْحَدِيث المروي عن عَبْد اللهِ بن عمرو رضي الله عنهما مرفوعاً: «إن هَذَا الدين متين فأوغل فِيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله، فإن المنبت لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقي فاعمل عمل امريء يظن أنه لن يموت إلا هرماً وَاحْذَر حذر امريء يخشي أن يموت غداً» أخرجه حميد بن زنجويه وغيره.
وفِي تكرير أمره بالقصد إشارة إلى المداومة عَلَيْهِ فإن شدة السير والاجتهاد مظنة السآمة والانقطاع، والقصد أقرب إلى الدوام، ولهَذَا جعل عاقبة القصد البلوغ. قال أدلج: بلغ المنزل.
فالمُؤْمِن فِي الدُّنْيَا يسير إلى ربه حتي يبلغ إليه كما قال تعالى: {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} وَقَالَ تعالى: {واعبد ربك حتي يأتيك إليقين}، قال الحسن: يا قوم: المداومة فإن الله لم يجعل لعمل المُؤْمِن أجلاً دون الموت ثُمَّ تلي هذه الآية.
وَقَالَ أيضاً: نفوسكم مطاياكم فأصلحوا مطاياكم تبلغكم إلى ربكم عز وجل. وإصلاح المطايا، الرفق بِهَا وتعاهدها بما يصلحها من قوتها والرفق بِهَا فِي سيرها، فإِذَا أحس بِهَا بتوقف فِي السير تعاهدها تَارة بالتشويق وتَارة بالتخويف حتي تسير.
قال بعض السَّلَف: الرجَاءَ قائد والخوف سائق، والنفس بينهما، كالدابة الحرون، فمتي فتر قائدها وقصر سائقها وقفت فتحتاج إلى الرفق بِهَا والحدو لها حتي يطيب لها السير.
قال خليد العصري: إن كُلّ حبيب يحب أن يلقي حبيبه فأحبوا ربكم وسيروا إليه مسيراً جميلاً لا مصعداً ولا مميلاً، فغاية السير يوصل المُؤْمِن إلى ربه، ومن لا يعرف الطَرِيق إلى ربه لم يسلك إليه فِيه، فهو والبهيمة سواء.
قال ذو النون: السفلة من لا يعرف الطَرِيق إلى الله ولا يتعرفه. والطَرِيق إلى الله هُوَ سلوك صراطه المستقيم الَّذِي بعث الله به رسوله وأنزل به كتابة وأمر الخلق كلهم بسلوكه والسير فيه.
قال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عنهُ: الصراط المستقيم، تركنا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي أدناه وطرفه فِي الْجَنَّة، وعن يمينه جواد وثُمَّ رِجَال يدعون من مر بِهُمْ، فمن أخذ فِي تلك الجواد انتهت به إلى النار، ومن أخذ عَلَى الصراط انتهي به إلى الجنة. ثُمَّ قَرَأَ: {وأن هَذَا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} أخرجه ابن جرير وغيره.
فالطَرِيق الموصل إلي الله واحد، وَهُوَ صراطه المستقيم، وبقية السبل كُلّهَا سبل الشيطان، من سلكها قطعت به عن الله، وأوصلته دار سخطه وغضبه وعقابه، فربما سلك الإنسان فِي أول أمره عَلَى الصراط المستقيم ثُمَّ ينحرف عنهُ آخر عمره فيسلك بعض سبل الشيطان فيقطع عن الله فيهلك. «إن أحدكم ليعمل بعمل أَهْل الْجَنَّة حتي ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيعمل بعمل أَهْل النار فيدخل النار» وَرُبَّمَا سلك بالرجل أولاً بعض سبل الشيطان ثُمَّ تدركه السعادة فيسلك الصراط المستقيم فِي آخر عمره فيصل به إلي الله.
والشأن كُلّ الشأن فِي الاستقامة عَلَى الصراط المستقيم من أول السير إلي الله {ذَلِكَ فضل الله يؤتيه من يشاء}، {والله يدعو إلي دار السَّلام ويهدي من يشاء إلي صراط مستقيم}. ما أكثر من يرجع أثناء الطَرِيق وينقطع، فإن القُلُوب بين أصبعين من أصابع الرحمن {يثَبِّتْ الله الَّذِينَ آمنوا بالقول الثابت}.
خَلِيْليَّ قُطّاعٌ الطَرِيقِ إِلى الحِمَا ** كَثِيرٌ وَأَمَّا الوَاصِلُونَ قَلِيْلُ

وفِي الْحَدِيث الصحيح الإلهي القدسي يَقُولُ الله عَزَّ وَجَلَّ: «من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة».
وفِي المسند زيادة: «والله أعلا وأجل والله أعلا وأجل»، وفِيه أيضاً: يَقُولُ الله: «ابن آدم قم إلي وامش إلي أهرول إليك».
اللَّهُمَّ أعذنا بمعافاتك من عقوبتك وبرضاك من سخطك واحفظ جوارحنا من مخالفة أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ جوارحنا من مخالفة أمرك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِيْنَ الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وصلى الله عَلَى مُحَمَّد وآله وصحبه.